يقول أحمد القاروط في مقاله على ميدل إيست آي إن إيران غيّرت قواعد اللعبة في مواجهتها الأخيرة مع إسرائيل، فبدلًا من الاكتفاء بالرد العسكري، وجّهت ضرباتها نحو البنية الاقتصادية والمالية التي تُغذّي آلة الحرب الإسرائيلية. ما بدأ كردّ فعل تحوّل إلى حملة منهجية تهدف إلى تقويض الثقة في قدرة إسرائيل على تمويل حرب طويلة.
إحدى الضربات البارزة طالت منزل داني نافيه، مدير شركة إسرائيل بوندز، الجهة المسؤولة عن جمع مليارات الدولارات من الجاليات اليهودية والمؤسسات الأمريكية لدعم الميزانية الإسرائيلية. اختارت إيران هذه الضربة بدقة لتضرب ثقة المستثمرين في أدوات الدين الإسرائيلية.
ترافق هذا الاستهداف مع هجمات سيبرانية وصاروخية على الحي المالي في تل أبيب وميناء حيفا ومصفاة النفط فيه، ما عطّل الإمدادات الحيوية للطاقة والصناعة. إسرائيل، التي تعاني بالفعل من نفقات عسكرية متصاعدة، وجدت نفسها وسط أزمة لوجستية وتكاليف متزايدة.
لكن الضربة الأكثر تأثيرًا لم تكن عسكرية، بل اقتصادية: في 20 يونيو، علّقت شركة الشحن العالمية "ميرسك" جميع رحلاتها إلى ميناء حيفا. لم تعلن أي جهة حصارًا، لكن شركات التأمين رفعت الأسعار بشكل جنوني، ما جعل ميناء حيفا فعليًا خارج الخدمة. وهو الميناء الذي تعتمد عليه إسرائيل في استيراد المعدات الصناعية والأدوية والسلع الاستراتيجية.
هذه العزلة البحرية المؤقتة عرّت هشاشة الاقتصاد الإسرائيلي: ارتفعت التكاليف، وازدادت الفجوات في المخزون، واضطرّت الحكومة إلى دعم سلاسل الإمداد بتكاليف باهظة. ووسط هذه الفوضى، لم تنجح إسرائيل إلا بعد وساطة أمريكية من دونالد ترامب في إقناع ميرسك باستئناف عملياتها.
في المقابل، أنفقت إيران ما بين 2 إلى 3 مليارات دولار على هذه العمليات التي أحدثت اضطرابات تفوق تأثير سنوات من العقوبات. فبفضل ضبط الإنفاق، والبيع النفطي خارج الأسواق الرسمية، والاعتماد على أدوات مالية غير خاضعة للدولار، حافظت إيران على تماسك اقتصادها.
يقول الكاتب إن هذه المواجهة لم تكن معركة طائرات ودبابات، بل معركة إرادات. إيران نجحت في إضعاف ثقة الأسواق العالمية بإسرائيل. الشارع الإسرائيلي يواجه تضخمًا، وهبوطًا في قيمة الشيكل، وارتفاعًا في أسعار التأمين، وتراجعًا في الاستثمارات، وانخفاضًا في تصنيف السندات. بدأت الشركات الصغيرة والمتوسطة تنهار، وتزايدت البطالة، وتقلّصت ساعات العمل نتيجة الإنذارات الأمنية، ما انعكس في تراجع الإيرادات الضريبية.
رد الحكومة جاء بزيادة الضرائب وخفض الإنفاق على التعليم والصحة والبنية التحتية. هذه ليست خطة إنقاذ بل "إسعاف مالي". تفقد إسرائيل الآن رأسمالها البشري وتواجه هجرة للعقول ورأس المال. الأخطر أن تل أبيب وجّهت نداءً رسميًا للحصول على دعم مالي من دول الخليج وأوروبا. لأول مرة منذ نصف قرن، تطلب إسرائيل المال لا السلاح.
هذه ليست مرونة مالية، بل انهيار بطيء. والأخطر أن طهران ضربت مصدر تمويل الحرب لا الجيش نفسه. وبحسب الكاتب، هذه الاستراتيجية سمحت لنتنياهو بتحويل الانتباه عن فشله السياسي وفرض سردية "البقاء" بدلًا من المساءلة.
على الجانب الأمريكي، استخدم ترامب وقف إطلاق النار كفرصة لا لفرض السلام، بل لإعادة تشكيل النفوذ الأمريكي في المنطقة. سمح لفترة قصيرة للصين باستيراد النفط الإيراني، في محاولة لجذب طهران نحو منظومات مالية تحت رقابة أمريكية، ثم تراجع. كما استخدم أدوات تمويل مثل منح البنك الدولي لسوريا لتقويض النفوذ الإيراني هناك، مع جهود مشابهة في لبنان.
تهدف هذه التحركات إلى إنعاش بنية "اتفاقيات إبراهام"، وضمان هدوء إقليمي يمكّن من دمج إسرائيل اقتصاديًا في المنطقة رغم تراجع قدرتها على الردع. لكن قدرة إيران على تعطيل الممرات البحرية ورفع تكاليف الطاقة تهدد هذه المشاريع الكبرى، مثل ممر الهند–الشرق الأوسط–أوروبا.
أمريكا لا تسعى لتصفية المواجهة، بل لإدارتها عبر موازين اقتصادية. بدلًا من الهيمنة العسكرية، تستخدم واشنطن أدوات الهيمنة البنيوية: المال، البنية التحتية، المؤسسات، والتحالفات. من خلال مشاريع مثل خطة درع إبراهام، تأمل واشنطن في تحويل أزمة إسرائيل إلى نقطة انطلاق لنظام إقليمي جديد قائم على الردع الاقتصادي والتكامل السياسي.
لكن كل هذا يبقى رهين قدرة إيران على الحفاظ على استراتيجيتها: استنزاف خصمها دون استنزاف نفسها.
https://www.middleeasteye.net/opinion/iran-dismantles-israels-war-economy-trump-cashes-in